"ما أنا إلا رفوف كتبي"
"ما أنا إلا رفوف كتبي"
هكذا فهمت عنوان مقال نشر قبل يومين على نيويورك تايمز، عن سيّدة تتأمّل حياتها وحياة زوجها الأستاذ الكتبيّ عبر مسيرة من القراءة والعيش مع الكتب التي تزاحمهم في البيت. عنوان المقال الأصلي كان "في مديح الرفوف المكتنزة بالكتب" ثم غيّره المحرّر إلى "My Bookshelf, Myself". مقالٌ شخصي لطيف ورائق، عن أشخاص بعيدين، في الستين من أعمارٍ هانئة، لم يُضطر فيها أحدهم لترك مكتبته والعيش منفياً عنها، هذا فضلاً عن شهود فنائها وهي تختلط بدماء وأشلاء من يحبّ، أو حرقها برمّتها، معَ من ساكنوها وسكنوا إليها دهراً. قرأت كثيراً عن المكتبات والمكتبات الشخصية.
ثمّة مقالات عربيّة أبلغ بكثير وأصدق من مقال ماغريت رينكل أعلاه. قرأت قبل سنوات للصديق رائد وحش، الشاعر السوري-الفلسطيني ابن مخيم خان الشيح، عن "يدٍ في ألمانيا تقلّب على الشاشة كتاباً في سوريا". في ذلك المقال، الذي يستولد قدراً من الأسى المديد والمرارة، يسرد الكاتب حكاية فقده مكتبته الشخصية التي بناها وكبّرها وتعلّق بها أشدّ ما يمكن لروح أن تتعلق بروح، ويخبرُ كيف أنّه يحتفظ في منفاه بصور لتلك المكتبة الشخصية التي صارت "أثر البيت الأخير" بعد الهجرة. يعود رائد إلى تلك الصور، يكبّرها ليتذكر كتباً يعزّ عليه أن تتفلّت تفاصيلها من ذاكرته؛ ريحها، ملمسها، مصدرها، الإهداء الذي خُطّ عليها، سعرها الذي وفّره من قلّة وفقر حال، صورة أبيه الذي أحضر بعضها يوماً من مدرسة الأونروا لابنه الذي أحبّ القراءة. يقول رائد: "ثمة كتب تشكّل فوارق حاسمة في حياة الإنسان، ليس لأهمية مضمونها وحسب، بل لطريقة حصوله عليها، أو لطريقة فقدانها". في مقال له نشر عام 2018، تجد عبارة أفرد لها الكاتب سطراً كاملاً، وكأنّه يريد بذلك أن يقول شيئاً آخر فوق ما تعنيه. بدت لي حروف تلك العبارة الصغيرة ذات المقطعين صارخةً وهي تنفرد على ذلك السطر، كأنّها هتاف مدوٍّ من المنفى الذي أزهف بالعمر من شدّة الحنين:
"المكتبة هويتي!"
قارنت ذلك الصوتَ الصارخ لصاحب المكتبة كلَمهُ الفقد، بصوت صاحبتنا الأمريكية تقول بمزاج بارد: "My Bookshelf, Myself"، وعرفت أن مكتباتهم شيء، ومكتباتنا شيء آخر.